ظل الناس يضربون أخماساً فى أسداس، من هو الغامض المجهول الذى دفع 179 مليون دولار فى لوحة بيكاسو «نساء الجزائر»؟! التى رسمها فى باريس عام 1955، كانت المفاجأة أنه رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم! المزاد الذى كان يوم 11 مايو الماضى كانت تتابعه الدنيا كلها لتوقع البورصة الفنية أن تحقق اللوحة أعلى رقم وسعر قياسى فى تاريخ الفن التشكيلى، الصدفة كانت فى أن اللوحة قد بيعت من خليجى إلى خليجى، المالك الأصلى سعودى والمشترى الحالى قطرى، ولكم أن تتخيلوا أن السعودى قد حقق فى 11 دقيقة وهى عمر المزاد من بيع لوحة بيكاسو أكبر صفقة فى عالم الفن التشكيلى منذ رسوم إنسان الكهف! كسب السعودى 83 مليون دولار فى ضربة واحدة، هى بالفعل صفقة ناجحة ومذهلة بين رجل أعمال سعودى شاطر وثرى قطرى استعراضى، لكن المفاجأة هى أن حمد بن جاسم رفض، والسلطات القطرية رفضت، عرض اللوحة داخل قطر نظراً لأنها لوحة عارية!! مما يطرح سؤالاً فى منتهى الأهمية: هل بثقافة الاقتناء التى يتبعها أثرياء قطر ستحدث نهضة فنية وارتقاء ثقافى هناك؟ هل سيكون مصير الفن هو نفس مصير الرياضة حين اقتنت قطر لاعبين أجانب فى رياضات مختلفة ومنحتهم الجنسية القطرية، هل حدثت نهضة رياضية هناك؟ هل عندما أكون وأشكل «أوركسترا سيمفونى» قطرياً من جميع الجنسيات إلا الجنسية القطرية ستحدث نهضة موسيقية؟...إلخ، قبل تحليل هذا الرفض القطرى لعرض اللوحة التى ستخدش حياء القطريين نعرف أولاً ما هذه اللوحة وتاريخها؟ وأرجو أن تشاهدوها على الإنترنت واطمئنوا لن تحدث لكم هواجس جنسية إلا لمرضى الهلاوس والضلالات، وهؤلاء مكانهم المصحات النفسية حتى يتم شفاؤهم بإذن الله! اللوحة تنتمى إلى المدرسة التكعيبية التى تبتعد تماماً عن أن تكون رصداً فوتوغرافياً للملامح والسمات، تأثر بيكاسو فيها بالفرنسى يوجين ديلاكروا ولوحته التى تحمل نفس الاسم، والتى رسمها 1843 بالجزائر، لا يمكن أن تكون هذه اللوحة التكعيبية لوحة بورنو أو أن تصبح مثيراً جنسياً يصل إلى الأورجازم إلا لأشخاص مثل الذين كانوا يحرمون اقتناء الخيار للسيدات أو الجلوس على الكرسى للآنسات!! ثقافة الاقتناء والتكويش والاستعراض المالى والكيد والغيظ للأصدقاء الأثرياء بمزادات الفن التشكيلى والقدرة على احتكارها، مما يذكرنى بمزادات سوق الخضار فى فيلم الفتوة! هذه الثقافة لن تصنع ارتقاء ولن تخلق حساً فنياً أو إبداعياً، من يتملكه وسواس الجنس عند رؤية لوحة لبيكاسو هو نفس الشخص الذى يثار جنسياً عند مشاهدة مبارة تنس لماريا شارابوفا التى لا ينظر فيها إلى قوة ضربة الكرة ومسافة وصولها ولكنه يراقب مسافة ارتفاع الجيبة ومدى تعرى الفخذين! أعرف أثرياء كثيرين وهم يصممون ديكورات شققهم ينزلون إلى المكتبات فجأة لشراء كتب ومجلدات سمك لبن تمر هندى، لا يقرأون فيها حرفاً ولكنهم يراعون الضخامة، وأن تكون نفس المقاس ثم يطلبون من مهندس الديكور أن تتماشى الكتب والمكتبة مع لون الأنتريه! هذا هو كل همهم ومنتهى اهتماماتهم وسقف طموحاتهم. ستظل لوحة بيكاسو أسيرة برودة قصر حمد بن جاسم فى لندن، يتفاخر بها على الأصدقاء ويغيظ بها منافسى المزادات، وسيظل التأثير الثقافى والفنى يحتاج سنين وسنين من العناء والجهد والتمرد وكسر تابوهات التزمت والتطرف وأحادية الفكر وسلفية التوجه، وسأظل كلما استمعت لصديقى ونحن فى حفل موسيقى فى الأوبرا وهو يقول الأوركسترا فقير، سأظل أجيبه يكفى أننا لدينا أوركسترا مصرى خالص، وفرقة باليه مصرية خالصة، يكفى أن تحضر حفلاً لعمر خيرت لتعرف وتتأكد من عمق جذورنا الثقافية والفنية، يكفيك زيارة لأكاديمية الفنون، يكفيك أن تقرأ عن معارض الفن التشكيلى وقاعاته التى لا تخلو أجندة أسبوع من الأسابيع من زخم فنى رائع يتوجه بتاج التألق والروعة، هذا هو الارتقاء الثقافى حتى ولو كنا فقراء، حتى ولو افتقرت شوارعنا وبيوتنا إلى مظاهر البذخ والثراء، حتى ولو كانت سلوكيات بعضنا عشوائية، إلا أننا مازلنا نمتلك الحس والوجدان والعقل الراقى والمستعد للارتقاء أكثر وأكثر، النواة مازالت سليمة تحمل جينات الحضارة لكن كستها للأسف فى السنين الأخيرة قشرة وهابية متكلسة علينا كسرها حتى نلمس الدى إن إيه المصرى الجميل الرائع الذى لن يقتله أبداً أى فيروس لأى محدث نعمة.